السبت، 5 أبريل 2014

نظرة وصفيّة تعريفيّة لأهم خلفيات و فروض النظريّة البيروقراطيّة الفيبريّة



نظرة وصفيّة تعريفيّة لأهم خلفيات و فروض النظريّة البيروقراطيّة الفيبريّة

إعداد : فريال أوصيف / الجزائر [ مقتطع من بحث جماعيّ ]



" Weber strongly believed that the bureaucratic form routinizes the process of administration exactly as the machine routinizes production. As a sociologist Weber was particularly interested in the social consequences of the proliferation of bureaucracy and was concerned about the effect it would have on the human side of society “ (Somchat Visitchaichan)[1]

 1. الخلفيّة الفكريّة لنظريّة Max Weber    البيروقراطيّة
تعد الكتابات و الطروحــــاتُ التي ظهرت أواخر القرن التــاسع عشر و أوائل القرن العشرين أحد أهم الإِنتاجاتِ الفكريّة التي إنتقلت بدراسة  ظــــاهرة البيروقراطيّة من شكلها الشامل المُتعلقِ بدورها في حركيّة المُجتمع إلى مُستواها الجزئي الذي أسس لها كظاهرة تنظيميّة خــــالصة إحتلت نصيبا كبيرا في أعمالِ العديدِ من المفكرين المُعاصرين ، و لعلَ من أشهر الطروحِ التي ساهمت بوضوحٍ في بلورة فكر قـــــارٍ حولَ هذه الظاهرة ما قدمه السوسيولوجيّ الألمـــــاني كارل ماركس في ضوءِ نظرياتهِ حول الصراعِ الطبقيّ في المجتمعات الرأسماليّة و الذي و إن لم يحتل المفهوم التنظيمي البيروقراطيّ مكانة بارزة في منظومته الفكريّة إلا أنه و عن طريقِ فهمِ و تحليلِ و إستيعابِ أفكاره و تصوراته العامة يُمكن الوصولُ إلى أنّ كارل ماركس يرى التنظيمات البيروقراطيّة بمثابةِ " فئة أجتماعيّة مميزة بالرغمِ من أنَّ هذه الأخيرة لا تُشكلُ طبقَة أجتماعيّة ، إلا أن وجودها مرتبط بتقسيم المجتمع إلى طبقات دورها الأساسي حسبه الحفاظ على الأوضــــاعِ الراهنة التي تتمثلُ في علاقات الإستغلالِ – بين من يملك و بين من لا يملك".[2]
فضلا كذلك عن إنتاجه مجموعة مهمة من المفــــاهيمِ البارزة التي ترتبطُ بشكلٍ أو بآخر بما قدمه Weber لاحقا في طرحهِ البيروقراطيّ المثاليّ على غرار " الإغتراب التنظيميّ ، تقسيم العمل ، الصراع الطبقيّ ... إلخ " و التي تنطلق في مُجملها من رؤيّة نقديّة "قبليّة" لاذعــــة للظاهرة التي أقرها مُنظر نظريتنا مَحَلُ الدراسة .

هذا و قد كــــان الباحثُ و المفكر G.Mosca قد قدم في مؤلفه الهام " مبادئ علم السياسة " سنة 1895 م Eléments of political science   دعوةً إلى ضرورة تقسيمِ التنظيماتِ الحُكوميّة على اساسِ مبدأ السُلطة و القُوة و هو المبدأ المُؤَسسُ في النظريّة البيروقراطيّة لفيبر كما سنتطرق له لاحقــــا .
و هُنا لابأس من الإشارة إلى أن Mosca تدعيما لآرائه هذه قد  قسمَ نماذج الحكوماتِ إلى نموذجين أساسيين :
الأول _ إصطلحَ عليهِ بنموذج " الحكومة الإقطاعيّة " المميز حسبه بمجموعة الخصائصِ على غرار أنَّ السلطة و القوة في هذه الأخيرة تُمارسُ على أساسٍ شخصيّ و مُباشر و في كلِّ مجالات النشاطِ الحكوميّ فضلا على أنَّ كل عضو من أعضاءِ الطبقة الحاكمة له القوة في أن يمتد نفوذهُ إلى جميعِ مجالاتِ النشاطِ المُتاحة دون تخصص .[3]
في حين ميّز الثاني _ و الذي أطلقَ عليه بنموذج" الحكومة البيرقراطيّة " بمجموعة من الخصائص المُهمة على غرار:
1.    أنّ أنشطة الدولة في هذه الحكومات البيروقراطيّة تُقسمُ إلى مجموعاتٍ متخصصة .
2.    " أن الصفوة الحاكمة فيها تقسم نفسها إلى مجموعـــــاتٍ تتولى كل منها نشاطا متخصصا من أنشطة الدولة .
3.    أنّ إحدى فئاتِ الصفوة الحاكمة و هي فئة الموظفين الذين يتقاضون أجورهم و رواتبهم من نتاجِ إدارتهم للثورة القوميّة للدولة عن طريق الآلة البيروقراطيّة هي الفئة التي تعطي للحكومة سمتها البيروقراطيّة تلك ."[4]
ما يجعلنا نخلص كما يذهب إليه الباحث عبد العزيز صالح بن حبتور إلى أنّ البيروقراطيّة عمد موسكا بمثابة نـــــظام فرعيّ لسلطة الدولة تعملُ فيهِ مجموعة مختارة من الصفوة الحاكمة و التي تدير أنشطتها المُتخصصة بطريقة مركزيّة مقابل أجري يُقتَطَعُ من نتاجِ إستغلالِ الثروة القوميّة للمجتمع المُعــــــاشِ فيه .[5]
من جهةٍ أخرى كانت لإنتاجاتِ المُفكر Robert Michels   ( 1876 – 1936 ) و التي تعايشت جنبا إلى جنب مع ما قدمه السوسيولوجيّ Weber مكانة بــــارزة في الخلفيّة النظريّة المعرفيّة التي أسست للنظريّة البيروقراطيّة بشكل مباشر .[6]
و هُنا نتطرقُ بالتحديد إلى ما قدمه ميشلز في مؤلفهِ الشهير political parties  " الأحزابُ السياسيّة " و الذي توفق فيه مع موسكا في ضرورة و حتميّة وجودِ الآلة البيروقراطيّة في الدولة الحديثة كبديل للنظام الذي كان سائدا آنذاك و نقصد هنا قاب قوسين " الإقطاعيّ" ، اضافة إلى دعوته إلى ضرورة قصورِ الدراسة و البحثِ كُليّة على ظاهرة البيروقراطيّة و حدها و بشكل خــــاصٍ حتّى يُمكن تسليط الضوء على مبراراتِ و جودها و كذا إزدهارها و فعاليتها .
و لعل أبرز النتائج التي إنتهى إليها  Michels  أثناء عمليّة تحليل دراستهِ تلك التي تقول :
1.      برزت ظاهرة البيروقراطيّة في التنظيم نتيجة للحاجة الماسة لفئة نخبويّة من الموظفين و الرؤساء – القادة – المُتخصيصين في مختلفِ النشاطاتِ المعروفة في التنظيم .
2.      " البيروقراطيّة ظاهرة حتميّة في كل التنظيمات مهما كانت نوعيتها ، إلا أنها دائما ما تزهر نتيجة لحاجة التنظيمات الكبيرة إلى وجود قلة متخصصة تشغل مراكز القيادة و التوجيه " . [7]
3.      إن خصائص البيئة التنظيميّة التي تقوم أساسا على شاكلة التسلسل الهرميّو الإتصال المباشر بين القادة هي ما يدعمُ مراكز هؤلاء ِ و ما يمنحهم نوعا من القوة و النفوذ و الثباتِ في العمل .
من خلال المسح السريع لما قدمه Robert Michels   نستشف أنّ للبيروقراطيّة فائدة مهمة وفقَ تحليلهِ و هو ما يتوائمُ مع ما جاءَ به  Weber و لو أن تصوره للظاهرة كما يذهب إليه الباحث بن حبتور فيهِ نوعٌ من التبسيطِ قائمٌ على مساواة هذه الظاهرة و بين الموظفين العمومين في الدول و بذلك اختزلت البيروقراطيّة عنده في المستوى الذي يقومُ أساسا على الصراعاتِ بين مراكز القوة التنظيمِ فحسب .[8]  الأمر الذي تجاوزه العالم الإقتصادي و الإجتماعيّ الألمانيّ Max Weber     في نظريته" الصريحة " للبيروقراطيّة ، و الجديرُ بالذكر في هذه النقطة بالذات أنهُ قبل Weber    كان مُصللحُ البيروقراطيّة يُستخدمُ بشكل أساسيّ كمرادف  لبيروقراطيّة الدولة كما لمسنا في ما تطرقنا أله سالفا ، في حين أنه جاء هُو ليساهم في توسيعِ المفهومِ بحيث أصيح يشير إلى صورة من صور التنظيم الواسعِ النـــــطاق .[9]
2. Max Weber    و التنظيماتُ البيروقراطـــــيّة

تعتبرُ كتابات Max Weber من أهمِ الكتاباتِ التي أثّرت بشكل كبير في الفكر الإجتماعيّ و الإداريّ الحديث ، و من خلالها يستطيعُ المنشغلُ بأمور البيروقراطيّة فهم هذه الظاهرة و كذا تطورها و تأثيرها في حركة التظيماتِ الكبيرة .[10]
إذ ينطلقُ في معالجتهِ للتنظيماتِ الإجتماعيّة من مسألة البيروقراطيّة bureaucracy  و التي تعد بالنسبة إليه بمثابة العمود الأساسيّ لكل تنظيمٍ إجتماعيّ بإعتبارِ أنها تحدد في خُطوطها العـــــامةِ آليّة العمل لكل عناصر التنظيم و كذا التسلسل الإداريّ و نظام الحقوق و الواجبات و مبدأ تقسيمِ العمل و غيرها من الُحددات الفعالة و المُنتجة.[11]

و تجدرُ الإشارة قبل الإنطلاقِ في تبيانِ أغوارِ مــــا جاء به أنّ من بين أهمِ مزاعمِ فيبر إرتباط البيروقراطيّة الوثيق بإتساعِ النظامِ الرأسماليّ ، " و توجد الرابطة بين الإثنين فيما أسماهُ " المعايير القانونيّة الرشيدة ، فأحد الملامح المميزة للمشروعِ الإقتصاديّ الرأسماليّ كما يرى فيبر هي طبيعته الروتينيّة ، فالإنتاجُ يعتمد على حسابِ الأرباحْ و التكاليفِ فيث علاقاتها بُمدخلات المواد الخام ، قوة العمل و مُخرجاتِ السلع ، و لا تظهر هذه الصورة القائمة على الروتين إلا من خلال تبني معايير و قواعد " لاشخصيّة " تُحدد الإجراءات و تجعلُ عمليّة الحسابِ الإقتصاديّ الدقيق أمرا ممكنا " ، و شدد فيبر على أنّ ظاهرة البيروقراطيّة خاصيّة غربيّة إلى أبعد حد تقـــــــــوم على " سُلطة القانون " و هو من أرفع أنواع السُلطات التي إنبثقت عن الفكر الغربيّ حسبه ، خاصة في ظلِ ظهورِ ثلاثة خصائص أساسيّة في المُجتمعات الغربيّة بالأخص الأروبيّة و هي " العقلانيّة ، السببيّة ، الُحريّة و الُساواة " .[12]
هذا و يُؤكد فيبر بأنه ليس هُناك بديلٌ ممكن عن البيرقراطيّة فالحاجة إلى الإدارة الكليّة تجعل من الإستغناءِ عنها أمرا مُستحيلا ، فالبيروقراطيّة عنده تهدف " تهدفُ إلى إلغاءِ الطابعِ الشخصيّ من حيث توزيع الأعمال أو طُرقِ أدائها ، و بمعنى آخر فالبيروقراطيّة هي مجموعة النظم و اللوائحِ التي تحدد السلوكَ التنظيميّ كما يجبُ أن يكون إعتقادا بأنَّ هذا السلوكَ يمثل أفضل سُلوكٍ يُمَّكِنُ التنظيم من تحقيقِ أهدافه " .[13]


و عُمومــــــا فإن كتاباتِ ماكس فيبر تدورُ حول محورين أساسيين هُمــــــا :
المحور الأول :  و يدورُ هذا الأخير حول دراسة ظاهرة التحولِ نحو البيرقراطيّة تــــارخيّا .
في حين أن المحور الثاني : يدور كما يذهبُ إليه الباحث عبد العزيز بن حبتور حول دراسة الأبعادِ التنظيمية للمؤسسات البيرقراطيّة و في رأي فيبر هنا كما يمكن أن نستشف أهميّة كبيرة في تطور الدُول الحديثة حتى و أنه من خلالِ مؤلفهِ  الهام للبيروقراطيّة the theory of social and economic organization   أكد على أنه يمكن من خلالها بناءُ نظريّة قوية عن المُجتمع .[14]
هذا و يمكن تبيانُ إسهام فيبر النظريّ في أمرين أساسيين و هما " بنيّة السُلطة و النــــموذج البيروقراطيّ المثاليّ " هذا الأخير سنفرد له فيما هو آتٍ من مادة إستقرائّيّة بابا كاملا .
أما بخصوصِ نماذجِ السُلطة عند مــــاكس فيبر فيجدر القول بأنّ المُكر يحدد السلطة داخل التنظيمِ على أنها علاقة ، و يُقيم تحليله على طبيعة هذه العلاقة بغرضِ تبيان الظروفِ التي تَتمأسس السلطة فيها أو تضمحل ، و يُعرفها مــــاكس فيبر و تقصد { السلطة } على أنها إحتمال طاعة بعض الأوامر المُحددة أو كل الأوامر من طرفِ نزرٍ من الأفراد ، أي أن هذه السلطة و ففق الفكر الفيبريّ شكلٌ كم اشكالِ الهيمنة الشرعيّة كما يذهبُ إليه لوران فلوري .[15]


و تقوم نماذج هذه السُلطة عند فيبر على ثلاثة أنظمة سُلطويّة متميزة هي :
1.    السُلطة الكــــاريزميّة : و التي تستمدُ من كاريزما القائد و صفاه و قدراته الشخصيّة النـــادرة  ، و في حالة هذه السلطة فإن الأفراد يقدمون مبدأ الطاعة و الإتباعِ للقادة الموهوبين الذين يتسمون بالولاء للتنظيم و التفانيّ أو ما يُسمى بالشرعيّة الكــــاريزميّة .
2.    السُلطةُ التقليديّة : أما هذه الأخيرة فموجودة لأسباب تاريخيّة تفرضها الأعرافُ و التقاليد و العاداتُ الجماعيّة المُتفق و المُتعارف عليها ، إذ يُطاعُ الشخص في هذه السلطة لسبب بسيط هو الموقعُ الذي تقدمه له القوة التقليديّة المعروفة traditional power   ، نتحدثُ هنا على سبيل المثال عن الحالات الملكيّة و غيرها من المناصب القياديّة الوراثيّة و غيرها من المناصب القياديّة الوراثيّة .[16]
3.     السلطة القانونيّة : و يرى مــــاكس فيبــــر أن البيرقراطيّة أنقى ممارسة للسلطة القانونيّة بِحكم إيمان أعضاء التنظيم بشرعيّة الأنظمة و القوانين .[17] و بحكمِ إعترافهم بالقادة لكفائتهم و إستحقاقهم للمنصب .[18]
أي أن السيطرة العقلانيّة أو البيرقراطيّة المشرروعة كما يذهب إليه الباحث ضيف ياسين سيطرة تقوم على الإيمانِ بشرعيّة الأنظمة و القوانين و الأشخاص اللذين يطبقونها .[19]
ويقول عبد العزيز بن حبتور في هذا الصدد " النظامُ الإداريّ ىفي إطار هذا النموذج للسلطة يقوم على إتباعِ التوجيهات النابعة من المراكز الأعلى فالنظامُ يقوم على فكرة التسلسل الرئاسي ، و التي هي عمادُ النظام الإداري الذي يطلق عليه مُصطلح البيروقراطيّة " .
و يردفُ أيضا في تعريفه للسلطة القانونيّة الرشيدة " هي السُلطة التي تنبع من الإعتقاد بسيادة القانون أو البنيّة الرسمية من المعايير القانونيّة و في مثل هذا النموذج هناك نظام من المعايير الرسمية المصممة لتنظيم السلوكِ و التصرفات و توجيهها بطريقة رشيدة ، و يكون الولاءُ هنا لمجموعة المبادئ و القواعد الرشيدة لا لشخص معين ، و شرعيّة القائد في ممارسة سُلطاته تنبع من إلتزامه بتلك القواعد الرشيدة " .[20]

و لعل أبرز ما يمكن أن نستشفه بعد تقديمِ هذه النماذج الثلاث هو إقرارُ فيبر و إعترافهُ بأنَّ التنظيم البيروقراطيّ بمختلفِ حيثياته يُعـــــد أكثر الأشكال التنظيميّة المبتكرة نجاعةً و كفاءة .


2.       النموذج البيرقراطيّ المثـــــالي

الأمر الذي لا مراءَ فيه أنّ النموذج المثاليّ يُعد أهم مَعــــالمِ نظريّة المعرفة لدى Max Weber ، بل أهمَ طروحهِ ككل بحكم أنّ فكرة هذا النموذج كما تذهبُ إليه الباحثة الجزائريّة سميرة بلغويل تعتبر تنظيما علميّا دقيقا له علاقاتٌ تـــــارخيّة متداخلة ىو تقولُ في هذا الصدد : " يرى روبرت بيرثيوس أنَّ أهم الموضوعاتِ الحيويّة التي تركها لنا فيبر هي دراسته عن النموذج المثاليّ للبيروقراطيّة و فتحه المجــــال لدراسة التنظيماتِ الكبرى في عددٍ من الأقطــــارِ الرأسمـــاليّة ".[21]

هذا و جــــاءَ مفهوم النموذج المثاليّ الفيبريّ ليميز به نوع معين من البناء على وجهِ الخصوص التنظيميّ العقلانيّ بإعتباره كما يذهبُ إليه الآكادميّ عبد الله عبد الرحمان بمثابة الشريط الأحمر أو الخط الفــــاصل العارفِ بالعوامل و العناصر البعيدة عن الفعاليّة و الكفاءة ، لكن يشكل أكثر عُمقا ، مــــا هو النموذج المثاليّ الذي يعتبر اكثر المفاهيمِ مفصليّة و محوريّة في فكر  Max Weber ، للإجابةِ على هذا السؤال طرحَ المُنظِر تعريفات كثيرة نذكر منها التعريفَ الذي يذهب فيه بأنّ النموذج المثاليّ عبارة عن "وصف موضوعيّ منطقيّ منسج لظاهرة ما من وجهة نظرٍ مُحددة ."
و دون الإستغراقِ في حيثياتِ المفهوم و لتوضيح الرؤية بشكل أجلى بخصوص هذا النموذج نحدد سماتهِ الفيبريّة و التي يجدر الإشارة إلى إنها بمثابة عناصرٍ و مكونـــاتٍ للبيروقراطيّة ذاتها ، و هي تشتق من الواقع الإمبريقيّ ثم تجرد على المُستوى العقليّ كما تذهب إليه سميرة لغويل لتشكل بناءا فرضيا يربطُ بين مجموعة من المتغيرات و الخصائص.[22]
1.    درجة عاليّة من التخصص الوظيفيّ و تقسيـــــمِ العمل :
في النموذج المثاليّ رأى فيبر أنّ مختلفَ نشاطاتِ و وظائفِ التنظيمِ تتوزعُ على الأوضاعِ الإجتماعيّة بوصفها نشاطاتٍ  و و ظائفَ رسميّة ، ما يعني وجودَ تقسيم عمل واضح يسمح كما تقول الآكادميّة معتوق فتحيّة بوجودِ درجة عاليّة من التخصص .[23]
ما يعني أنَّ توزيع الأنشطة التي تزاولها المؤسسة على أعضاء التنظيم يكون بطريقة و منهجيّة ثابتة بإعتبار هذه النشاطات بمثابة واحبات رسمّيّة ، و هذا ما يكرسُ قيم المسؤوليّة و الفعاليّة في الآداءِ بشكل أكبر .
" على هذا النحو صــــاغَ فيبر الخاصية البيروقراطيّة الأولى و رتبَ عليها نتيجتين :
الأولى : أنّه كلما زادَ تقسيم العمل زادت الفعاليّة الإداريّة ( التنظيميّة أو البيروقراطيّة ) .
            
و الثانيّة : أنه كلما زاد التخصص زاد الآداء و زادت الكفاءة التنظيميّة " .[24]

2.    التسلسل الهرميّ للسلطة :
ما يعني أنَّ التنظيم البيروقراطيّ يتبعُ مبدأ الهرميّة القائمة و المُتأسسة على مبدأ التدرج في السُلطة ، بشكل أكثر عُمقا فإن الوحدات الإداريّة السفلى في هذا التنظيم تخضعُ لتقويمِ و مُراقبة و إشرافِ تلك الأعلى منها ، ما يعني أن كل موظف يخضع إداريا و وظيفيا  للموظف الذي يعلوهُ في المرتبة الوظيفيّة ، بشكلٍ آخر فإن المشرفَ على عدد من الأفراد يتموقعُ في موقعِ ممارسةِ السلطة  و إصدارِ التعليماتِ و التوجيهات في حينِ من هم أدنى منه وظيفيا في موقع المُـــــتلقي و المنفذ و الممثلِ للأوامر .

3.    توفر نسق مسْتقر نسبيا من القواعد و اللوائح :
تقولُ الباحثة سميرة بلغويل في هذا الصدد :
" أصبحت التنظيمات تُحكمُ بواسطة قواعدٍ بيروقراطيّة رشيدة تهدف إلى تحقيقِ أقصى درجــــاتِ الفعاليّة ، كما تخضع العمليات التنظيميّة لنظامٍ من الإجراءاتِ و القواعدِ الصارمة التي تَحكم و تنظمُ قراراتِ الفرد و أعماله ، و في نفسِ الوقتِ تضمنُ آداء نشاطاتِ التنظيمِ و تحقيق الإستمرارِ في العمل " .[25]
فضلا عن هذا فإنّه و من خلالِ اللوائحِ و القواعدِ المضبوطة تتحدد عُضوية كل عضوٍ و تُحَكَمُ العلاقاتُ بين الأنشطة و الوظائف المُختلفة و بذلك يمكن القول بأن وجودٍ نسقِ ظبطٍ مُستندٍ على قواعدٍ رشيدة يزيدُ من الكفاءة الإداريّة و هذا ما دفعَ فيبر كما تشير الباحثة بلغويل دائما إلى القولِ بأنّ " الإدارة البيرقراطيّة هي في الأصلِ ممارسةُ الظبطِ على أساسِ المعرفة " .[26]
4.    سيادةُ العلاقاتِ الموضوعيّة :
في هذا السيــــاقِ يُقر فيبر أن الموظف المثاليّ داخل أيّ مؤسسة هو ذلك الشخص الذي يتسم بصفة الحيادِ و الموضوعيّة إذ لا تؤثر مشاعره الشخصيّة و إعتباراته الذاتيّة على القراراتِ التي يتخذها .
و ترتبطُ مسألة الموضوعيّة هذه بالحيادِ الأخلاقيّ الذي تحدث عنه فيبر في مواضعِ طرحهِ عندمـــا عالجَ العلاقاتِ الإجتماعيّة في التنظيم .
5.    إختيار أعضاء التنظيم على أساسِ المقدرة و المعرفة الفنيّة  :
يستندُ التوظيفُ و التعيينُ في التنظيم البيروقراطيّ المثاليّ على أساسِ المهاراتِ الفنيّة و المُستوى التعليميّ الرسميّ بدلا من الإرتباطات الأسريّة و السياسيّة .[27]
و يتم إسناد الوظائفِ من خلالِ إجراءات رسمّية و غير رسميّة كمُسابقات التوظيف و الإمتحانات المُباشرة .
و من الخصائص الأخرى التي يمكن إردافها في وصف النموذج الفيبريّ المِـــــثاليّ البيروقراطيّ :
1.    يحكم التنظيم البيروقراطيّ إتجــــاه غير شخصيّ ( وجود المســـافة الإجتماعيّة ) .
2.    يجب إحترامُ الأقدميّة كأساسٍ للتقدم في العمل و هذه الأقدميّة تُقاسُ من خلالِ الإنجازِ .
3.    التأكيد على أن الإدارة ليست ملكيّة لأن العمال مسؤلون عن تبريرِ إستهلاكِ وسائلِ العمل و الإنتاج .
4.    النموذج المثالي لفيبر يؤكد على التثبيت كتابيا كل القواعدِ و الإجراءاتِ بمعنى لا يُؤمن بالثقافة الشفهيّة .[28]
5.    ضرورة التنسيق بين نشاطاتِ أعضاء التنظيم.
6.    إستمرارُ أداء النشاطاتِ بغض النظرِ عن تغير الأفراد .
7.    التجانس بين العاملين في المُستوى الثقافيّ و المهنيّ .
8.    عدمُ الفصل التعسفيّ .[29]
9.     تخصيص مرتب و أحيانا معاشٍ تقاعديّ للموظفين ، و يحدد المرتبُ حسب أهميّة الوظيفة ، و يستطيع الموظف تركَ وظيفته و في حــــالاتٍ خاصة يمكن إقالته منها .
10.                      خضوع الموظف للرقابة المُنظمة و للتدابير التأديبيّة .[30]

كانت هذه عُمومــــــا رؤية عــــامة عن الخصائصِ التي يتضمنها النموذج البيروقراطيّ المثاليّ و هي خصائص تزيد من الكفاءة الإداريّة حسب طروحِ فيبر كما أنها تزيد من فرصة إتخاذ قراراتٍ رشيدة داخل أي تنظيم بيروقراطيّ .

يقول  Aby Jain :
“ According to Weber, the goal of bureaucracy – the reason why it had evolved - was to maximize efficiency. He posited that bureaucracies were technically efficient instruments of administration because their institutionalized rules and regulations enabled all employees to learn to perform their duties  optimally.”( Aby Jain )[31]

و بهذا فإن الهدف من البيروقراطيّة و السبب الذي ساهم بشكلٍ كبير في تطورها و بروزها هو إعتبارها أداةً إداريّة فعالة تقنيّا ، بحكم أن قواعدها و أنظمتها تساعد على تمكينِ جميعِ الموظفين من التعلم و التحسن في الآداء و القيام بواجباتهم على النحو الأمثل .


3. مدى مثاليّة النموذج الفيبريّ

يرى السوادُ الأعظم من علماء الإجتماع أنَّ  Max Weber هُو أولُ من حــــاول تقديم نظريّة مُؤسسة و شاملة حول ظاهرة التنظيمات البيروقراطيّة ، إذ إتسمت أطروحاتهُ بالإتساقِ المنطقيّ و التحليلِ الجزئيّ الأمرُ الذي أيده و دآفعَ  عنه مجموعة بارزة من مُفكريّ علمِ إجتماعِ التنظيم خاصة في ظلِّ الإنتقادات الكثيرة التي تعرض لها نموذجه المثاليّ و التي نفضل التفصيل فيها بشكل أكبر في المحور التـــاليّ ، و لكن لابأسَ هُنا أن نستعرضَ أهمَ وجهات النظر المُدافعة و التي أقرت أهميّة النموذج الفيبريّ و قلة قصوره.
1.    Micos mouzelis ،  أشار هذا الأخير إلى أنَّ مختلف الإنتقادات المُوجهة لمفهومِ البيروقراطيّة هي إنتقاداتٌ غير صويبة و غير مترابطة لما  توحيّ إليه من إفتراض مُؤداهُ أنَّ نموذج  Max Weber  المثاليّ نموذج شبيه بالنماذج البسيطة أو الإمبريقيّة .
هذا و قد حــــاولَ أن يُطبق عمليّة بناء النموذج المثاليّ التجريديّ على النموذج المثــــاليّ الغربيّ للبيروقراطيّة ليتصول إلى نتيجة أساسيّة مفادها أنّ التنظيم الرشيد المثاليّ هو التنظيمُ الذي  يُؤدي مهامه بأقصى درجة من الفعاليّة و الكفاءة و هو الأمر الذي يُدعم ما جــــاء به  Max Weber  إلى حد بعيد .
2.    مـــارتن ألبرو M .Albran  ، أقرَّ هذا الأخير بأن الإجراءاتِ البيروقراطيّة العقلانيّة هي أكثرُ الأدواتِ غاية و الأنجع في قياسِ الفعاليّة داخل أي تنظيم .
3.    في حين دافعت مانيتز Maynts هي الأخرى عن النموذج فيبر المثاليّ " و تعتقدُ أنَّ الفعاليّة تزدادُ كلما كـــــانَ هُنــــاكَ تقارب بين الواقعِ و الإطارِ التصوريّ ، و هذا هو المضمون الأساسيّ لنموذج Max Weber  المثاليّ عن البيرقراطيّة " .[32]




[1] Somchat Visitchaichan, Revisiting Weber's Theory of Bureaucracy and its Usefulness for Analyzing Organizational Structures and Issues, University International College, Salaya Campus. Nabonpathom, Thailand, p 4.

 ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 79.[2]
 عبد العزيز صالح بن حبتور ، مرجع سبق ذكره ، ص 102.[3]
 نفس المرجع السابق ، ص 102.[4]
 نفس المرجع السابق ، ص .102[5]
 ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 89.[6]
 عبد العزيز صالح بن حبتور ، مرجع سبق ذكره ، ص 103.[7]
 نفسُ المرجعِ السابق ، ص 104.[8]
 ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 85.[9]
 عبد العزيز صالح بن حبتور ، مرجع سبق ذكره ، ص 104.[10]
 حسين صديق ، مرجع سبقَ ذكرهُ ، ص 331.[11]
 ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 85.[12]
 المرجع السابق ، ص 86.[13]
 عبد العزيز بن حبتور ، مرجع سبق ذكره ، ص 105.[14]
 ياسين ضيف ،         مرجع سبق ذكره ، ص 86.[15]
[16]   Aby Jain , Using the lens of Max Weber's Theory of Bureaucracy” to examine E-Government Research”, Proceedings of the 37th Hawaii International Conference on System Sciences, 2004, p 2.
  ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 87.[17]
[18] Aby Jain , Ibid , p 2.
ياسين ضيف ، مرجع سبق ذكره ، ص 87.  [19]
 عبد العزيز صالح بن حبتور ، مرجع سبق ذكره ، ص 106.[20]
 سميرة بلغويل ، مرجع سبق ذكره ، ص 70.[21]
 نفس المرجع السابق ، ص 74.[22]
 فتحيّة معتوق ، مرجع سبق ذكره .[23]
 سميرة بلغويل ، مرجع سبق ذكره ، ص 75.[24]
 نفس المرجع السابق ، ص 75.[25]
 المرجع نفسه ، ص 75.[26]
 فتحيّة معتوق ، مرجع سبق ذكره .[27]
 فتحيّة معتوق ، مرجع سبق ذكره .[28]
 ياسين صديق ، مرجع سبق ذكره ، ص 88.[29]
الإدارة العامة ( لبنان : منشورات الجيليّ الحقوقيّة ، ط 1 ، 2005 ) ، ص 848.   طارق المجذوب ، [30]
[31]    Aby Jain , Ibid , page 2.
 سميرة بلغويل ، مرجع سبق ذكره ، ص 257.[32]

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق